خطر المظالم المتعلقة بحقوق العباد
وفي هذا تأكيد وتغليظ فيما سبق الحديث عنه من حقوق العباد، وهو الديوان الذي لا يترك الله تبارك وتعالى منه شيئاً، فحقوق العباد لا بد من أن يردها الإنسان إما في الدنيا وإما في الآخرة، وقد تقدم ذكر هذا، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها )، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال أو شيء فليتحلله منها اليوم في الدنيا بأن يرد إليه مظلمته، أو بأن يطلب منه أن يعفو عنه وأن يحله منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم، فيوم القيامة لا دنانير ولا دراهم، وإنما هي الحسنات، فيؤخذ من حسناته، فإن كفت وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، نسأل الله العفو والعافية، وهذا كاف في أن ينزجر المسلم عن حقوق إخوانه المسلمين في الأعراض أو الأموال، وأشد من ذلك وأعظم الدماء؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أول ما يقضى فيه يوم القيامة بين الخلائق في الدماء )، فالدماء أمرها عظيم، وكذلك الأعراض، وكذلك الأموال.فلا بد للمسلم من أن يحتاط وأن يتنبه لهذا الخطر العظيم، ولهذا الباب الكبير من أبواب البلاء، والسبب الذي هو من أسباب نزول العقوبة، فلا يجعل للشيطان عليه مدخلاً، بل يحتاط أولاً لئلا يقع منه مظلمة في حق أحد من المسلمين، وقل من ينجو من ذلك، فإن وقع فليتحلل من صاحبه، فإن لم يفعل ذلك فإنه يكون المفلس الذي ورد ذكره في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: ( أتدرون من المفلس؟ ).وذلك من باب التربية والتنبيه على أن الناس لهم موازين ولهم معايير ولهم مصطلحات، ولكن هناك ما هو أولى بهذا الاسم وبهذا المصطلح، وهذا نوع من أنواع التربية اللطيفة الذكية، فالناس دائماً يتعارفون على أمور وعلى أسماء وعلى مصطلحات، فعند جميع الناس المفلس الذي لا درهم له ولا متاع، هكذا يظنون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة، ويأتي وقد شتم عرض هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا )، فيأتي أهل الحقوق لأخذ حقوقهم منه، فلا يزالون يأخذون منه حتى تفنى الجبال من حسناته، فإن كفت وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، نسأل الله العفو والعافية.وهؤلاء القوم أهل القنطرة هم نوع آخر كما يظهر، فهذه حالة أخرى غير موقف الحساب والميزان وإعطاء الحقوق، فكأن هذه أمور أخف من تلك، فهي مما يقع بين أناس حسناتهم راجحة -بإذن الله- وكتب الله سبحانه وتعالى لهم السعادة والنجاة، لكن بينهم مظالم، فلا يريد الله تبارك وتعالى أن يدخلوا الجنة حتى يهذبوا وينقوا؛ كما قال تعالى: (( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ))[الحجر:47]؛ إذ لو دخل الإنسان الجنة وما يزال في قلبه على أخيه شيء أو كان عنده مظلمة؛ لكان هذا منغصاً لكمال النعيم؛ لأن الإنسان لو كان في أعظم نعيم ورأى من يشاركه فيه ممن بينه وبينه عداوة أو بغضاء لكان ذلك مما ينكد ويكدر وينغص عليه هذا النعيم، لكن أفضل شيء في مثل هذه الحالة هو أن يعفو وأن يصفح وأن يتحلل، فإذا ذهب ما في القلوب وزال هذا السبب، كان تمتعه بهذا النعيم أفضل، وهذا أمر مشاهد فيما جعله الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا من أسباب الفرح؛ فإن الناس في الدنيا يفرحون في المناسبات الطيبة كالأعياد أو الزواج أو ما أشبه ذلك، فكيف يكون حال الإنسان إذا شاركه في عيده أو في فرحه بأمر ما من بينه وبينه نوع من العداوة؟! وهذا حال الدنيا، أما في الآخرة فإن هناك كمال النعيم، وكمال النعيم لا يكون إلا في الجنة، ومن استكمال ذلك ألا يكون في قلب أحد من أهل الجنة على الآخر غل أو حقد أو عداوة، بل تطهر وتنقى هذه القلوب جميعاً، فتدخل في دار الصفاء والنقاء صافية نقية.فهذه هي المناسبة الواضحة في هذا الأمر؛ ولذلك فإن إدخاله هنا في ضمن موانع دخول النار ليس مما اتفق عليه العلماء الذين كتبوا في هذا الموضوع، بل بعضهم على ما فعل الشيخ، وبعضهم لم يجعلوا ذلك من موانع دخول النار؛ لأن هذا في حق أهل الجنة فيما بينهم.لكن الشارح رحمه الله راعى أمراً، وهو أن هذا يكون قبل دخول الجنة في قنطرة بين الجنة والنار، فرأى أنه لو لم تكن هذه القنطرة ولو لم يكن هذا القصاص في هذا الموضع فلربما كان ذلك داعياً لأن يدخل أحدهم النار ولو مساً خفيفاً، فهذا وجه إدخال الشارح رحمه الله تعالى لهذا السبب وجعله سبباً تاسعاً من أسباب منع دخول جهنم.